حقيبة وزارية لشؤون مواقع التواصل الاجتماعي؟!

مما لا شكّ فيه أن شبكات التواصل الاجتماعي اصبحت تلعب دوراً بالغاً في العالم السياسي اللبناني، وفي حين أصبح التعامل مع هذه المواقع حاجة ملحّة للقوى السياسية، لا سيما في الاستحقاقات الانتخابية، إذ من شأنها تقريب المسافة الى حدّ ما بين المسؤول والمواطن والمساهمة أيضا في خدمة أي مشروع سياسي وتسويقه ودعم أي نشاط اعلامي ورصد الرأي العام وتوجيهه، الا أنّ فضاء “السوشيل ميديا” الافتراضي على رغم إيجابياته، بات يعكس في الآونة الأخيرة إشعاعات سلبية اخترقت غلاف الواقع وشوّهت معالم الحرية، فأضحت مواقع التواصل حلبةً للصراعات الفكرية بين الأحزاب والتيارات وأرضاً خصبة للشحن الطائفي والتحريض المذهبي والتعدّي الشخصي حيث كلٌّ يغني على ليلاه، والوطن على أشجانه يغني!
ولكن ما هو مفهوم حرية الرأي؟ ومن يحدد ضوابطها أو على الأقل ترشيد استخدامها؟
قد يكون تطور التكنولوجيا وارتفاع عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي من العوامل التي ساهمت في رفع مستوى حرية الرأي والتعبير، وأفسحت المجال امام شريحة واسعة من مكونات المجتمع للتعبير عن آرائهم في مجمل القضايا الهامة بالنسبة لهم، لكنّ هذا الفضاء الالكتروني أصبح مستباحاً بشكل انتهازي وبات يستعمل كوسيلة لاستهداف شخصيات معينة وتشويه صورتها بأبشع عبارات القدح والذم، وبأقذر الأساليب غير المشروعة، الأمر الذي أدى الى انهيار جدار المبادىء الأخلاقية تدريجيا وأصبح في الواقع آيلاً للسقوط!
صورٌ مستفزّة وعبارات صادمة باتت تُطرح بشكل يومي عبر شبكات التواصل، وهذا العالم الافتراضي بات ساحة لتراشق مُهين ينال من حياة الأفراد الشخصية ومن عائلاتهم وكراماتهم، ويتخطّى جميع الحرمات لا سيما حرمة الموت حيث صار الناس يقرأون خبر وفاة أحد ذويهم بحادث سير عبر “فايسبوك” مثلا مرفقا بصور للفقيد، قبل أن يصلهم الخبر بشكل رسمي من الجهات المختصة!
وفي الفترة الاخيرة، انتشرت ظاهرة الابتزاز الالكتروني في المجتمعات العربية وازداد عدد ضحاياها في لبنان من الذكور والاناث، وشهدت الأشهر الفائتة عدة محاولات انتحار لبعض الفتيات اللواتي وقعن في شباك “العنكبوت” وسقطن ضحية عملية التهديد والترهيب بنشر صورهن على مواقع التواصل في محاولة للحصول على مكاسب مادية أو إخضاعها “سياسيا” وذلك قد حصل فعلا ضمن الانتخابات النيابية الاخيرة، حيث استعمل مناصرو التيارات والاحزاب “السوشيل ميديا” كوسيلة لشنّ الهجمات والهجمات المقابلة، الأمر الذي دفع ببعض المغرضين والمختلّين نفسياً الى استخدام لغة التهديد لكمّ الأفواه!
هذا الاغتصاب المعنوي لخصوصية الآخرين بات يشكّل خطراً حقيقيا على المجتمع، وحيث درجت العادة منذ انتقال لبنان الى حقبة “العهد القوي” باستدعاء النشطاء على مواقع التواصل وتوقيفهم او تغريمهم وبأخفّ تقدير اجبارهم على توقيع تعهّد بعدم التعرض، الأمر الذي بدا في بدايته قمعاً للحريات، الا أن التمادي في استخدام هذه الحرية دون ادنى مراعاة لمشاعر الاخرين وحياتهم الشخصية وخصوصيتهم بات يستوجب قانونا يعمل على ضبط التعديات واعتبارها كسائر المخالفات في لبنان عسى ان تسقط الكلمة في الميزان اولا قبل ان تخرج بعبثية الى العلن.
وإذ باتت مواقع التواصل الاجتماعي تشكّل عبء على السياسيين في لبنان، حيث ان رواد هذه المواقع “فتحوا على حسابهم” ودفعوا بالوطن الى حافة الانزلاق في الفتنة، استنكر بعض المسؤولين المناهضين لسياسة الاعتقالات العونية وسياسة الوزير جبران باسيل التي وصفها البعض” بسياسة الكيدية الطائفية” اداء النشطاء العشوائي داعين الى تشريع قانون ينظّم مواقع التواصل ويحدّد سقفاً للحرية التي لا بدّ وان تتوقف عند حدود حرية الآخرين وكراماتهم، فالقدح والذم ولغة الشتائم التي طاولت العديد من المسؤولين والمشاهير والمواطنين في لبنان تشير الى ما لا يحتمل الشك بأن الحرية المصانة في الدستور اللبناني باتت تظهر عيوبها بسبب سوء استخدامها، وباتت تؤكد الى ان المجتمع بأكمله في خطر إن لم تحدّد ضوابط رادعة للتفلّت الاخلاقي وانعدام القيم الانسانية التي تترجم تواصليا على السوشيل ميديا!
من جهة اخرى فإن الباخرة التركية كانت “القنبلة الموقوتة” على مواقع التواصل والتي فجّرت خلافاً استدعى اجتماعا طارئا لقيادات حزب الله وحركة امل لوقف الحرب المشتعلة، وإذ توجّه أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه مساء امس بذكرى الانتصار في حرب تموز، الى جمهوره على شبكات التواصل مشددا على اهمية الانتقاد والضغط على القوى السياسية شرط أن يتّسم الانتقاد بالرقي والموضوعية، وان يُستغلّ اي تحرك بوعي ورويّة، واستنكر الاعتداءات المعنوية التي تثيرها افرقاء الخلاف، مشيرا الا مانع للاختلاف في الرأي “بس ما عم يضلّ كرامات لحدا!”
إذاً، فإن وباء الفلتان الاخلاقي على مواقع التواصل الاجتماعي وصل ذروته، وبات يتجسد في تغريدات النشطاء وردودهم، وإن كان المشهد المقزّز يشير الى أنّ بعضنا قد وصل الى الدرك الأسفل من النقد الهدّام، وإن كان الفضاء الالكتروني الافتراضي بات يسحب نحو الواقع، فلنتضامن جميعنا للمطالبة بتشريع قانون يحمي حريتنا وخصوصيتنا ويصون كرامتنا، ويرسّم حدودا لهذا الفضاء على ان يطبق هذا القانون بالمساواة دون محسوبيات او اعتبارات سياسية، ولنغرّد بطلاقة وحرية دون المساس بسمعة الاخرين والتطرّق الى حياتهم الشخصية ولنحسن استخدام عباراتنا ولنتحكم بزلات فكرنا ولنضبط ردود افعالنا ولتكن ادبيات اللياقة في الخطاب سيدة الموقف، وليعاقب كل من يتجاوز هذه الحدود بما يفرضه القانون.
ولربّما يستوجب ضبط الفضاء الالكتروني استحداث حقيبة وزارية جديدة، أو وزير دولة لشؤون مواقع التواصل، لمَ لا؟ ان كانت هذه المواقع قد اقتحمت حياتنا حتى باتت جزء لا يتجزأ منها، وما دامت الحكومات اللبنانية جاهزة دوما لتفصيل أية “بدعة” تحت حجة المصلحة الوطنية.